Tuesday, October 2, 2012

النبي الهارب والشعب التائب


النبي الهارب والشعب التائب - للقديس كيرلس الكبير

لماذا أُرسِلَ يونان إلى شعب وثني

وصار قول الرب إلى يونان... قُمْ اذهب إلى نينوى المدينة العظيمة ونادِ فيها، لأنه قد صعد صراخ شرِّهم إليَّ. يون 1: 1 - 2 سبعينية. وَصَارَ قَوْلُ الرَّبِّ إِلَى يُونَانَ بْنِ أَمِتَّايَ قَائِلاً: قُمِ اذْهَبْ إِلَى نِينَوَى الْمَدِينَةِ الْعَظِيمَةِ وَنَادِ عَلَيْهَا، لأَنَّهُ قَدْ صَعِدَ شَرُّهُمْ أَمَامِي. يونان 1: 1 - 2 ينبغي أن تُلاحظوا من خدمة ورسالة نبوَّة يونان مبدءاً هاماً بأسلوب الطوباوي بولس الذي قال: أَمِ اللهُ لِلْيَهُودِ فَقَطْ؟ أَلَيْسَ لِلأُمَمِ أَيْضًا؟ بَلَى، لِلأُمَمِ أَيْضًا لأَنَّ اللهَ وَاحِدٌ، هُوَ الَّذِي سَيُبَرِّرُ الْخِتَانَ بِالإِيمَانِ وَالْغُرْلَةَ بِالإِيمَانِ. رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية 3: 29 - 30. وإذ نتعلَّم ذلك بالاختبار فإنَّ الرسول بطرس أيضاً يُعلن ذلك بقوله: بِالْحَقِّ أَنَا أَجِدُ أَنَّ اللهَ لاَ يَقْبَلُ الْوُجُوهَ. بَلْ فِي كُلِّ أُمَّةٍ، الَّذِي يَتَّقِيهِ وَيَصْنَعُ الْبِرَّ مَقْبُولٌ عِنْدَهُ. أعمال الرسل 10: 34 - 35. فإنَّ الله هو الذي خلق الإنسان في البدء على صورته ليكون مُكرَّساً للفضيلة، لكي يعيش حياة قداسة مُباركة جديرة بالثناء، ولكي يتمتَّع بنصيبٍ وافرٍ من عطايا الله

ولكن البشر ضلُّوا في الخطية، إذ أغوتهم خداعات الشيطان، وبالتالي فقد أصبحوا ملعونين وخاضعين للفساد. وكان المسيح قد دبَّر - إذ عَلِمَ بذلك قبل تأسيس العالم - أن يُصحِّح كل شيء. لقد سُرَّ الله الآب أن يَجْمَعَ كُلَّ شَيْءٍ فِي الْمَسِيحِ، مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا عَلَى الأَرْضِ. رسالة بولس الرسول إلى أهل أفسس 1: 10

أَمَرَ الله يونان أن يذهب إلى نينوى التي كانت مدينة فارسية، وكانت كما قال إرميا النبي: أَرْضُ مَنْحُوتَاتٍ هِيَ. إرميا 50: 38. وكانت على حدود بلاد اليهود وقد استسلمت لعبادة الأصنام. فلماذا ترك الله المدن القريبة وأرسل يونان إلى تلك المدينة الوثنية التي كانت كما قال ناحوم النبي: الزَّانِيَةِ الْحَسَنَةِ الْجَمَالِ صَاحِبَةِ السِّحْرِ الْبَائِعَةِ أُمَمًا بِزِنَاهَا. ناحوم 3: 4! أرى أنَّ الله كان له قصد نافع في أن يُبرهن حتى للمتغرِّبين عنه أنه يمكنهم أن يُجتذَبوا، في الوقت المناسب، إلى معرفة الحق حتى ولو كانوا غارقين في عنادهم


قوة تأثير كلمة الله

وكما ترون، فإنَّ كلمة الله قادرة على حثِّ الناس أن يتعلَّموا ما يجعلهم حكماء. وكما قال الرب لإرميا النبي: هأَنَذَا جَاعِلٌ كَلاَمِي فِي فَمِكَ نَارًا، وَهذَا الشَّعْبَ حَطَبًا، فَتَأْكُلُهُمْ. إرميا 5: 14، وأيضاً: أَلَيْسَتْ هكَذَا كَلِمَتِي كَنَارٍ، يَقُولُ الرَّبُّ، وَكَمِطْرَقَةٍ تُحَطِّمُ الصَّخْرَ؟ إرميا 23: 29. وهكذا فلم يكن بدون هدف أن يُرسَل يونان إلى أهل نينوى، بل إنَّ ذلك حدث لكي يكون كبشير لرأفة الله المتأصِّلة فيه، والتي يمكن أن تُمنَح حتى للشعب الذي ضلَّ بجهالته

وفي نفس الوقت، فقد كانت في هذا القول من فم إرميا النبي إدانة لشعب إسرائيل، لأنهم كانوا مُدانين بكونهم متمردين غير مستجيبين لناموس الله وغير مُبالين به. ومع ذلك فإنَّ أهل نينوى رجعوا فوراً إلى الشعور بالالتزام بالتوبة بإنذارٍ واحدٍ للنبي، رغم أنَّ هذا الشعب كان يعيش في خداع الوثنية؛ في حين أنَّ شعب إسرائيل استخفَّ بموسى والأنبياء، ثم قاوم المسيح مخلِّصنا، رغم أنه أيَّد تعاليمه بالمعجزات، حيث كان يجب أن يقتنعوا بسهولة أنه هو الله الذي صار إنساناً ليُخلِّص الجميع وهم قَبْل الجميع. ولذلك قال عنهم الرب: رِجَالُ نِينَوَى سَيَقُومُونَ فِي الدِّينِ مَعَ هذَا الْجِيلِ وَيَدِينُونَهُ، لأَنَّهُمْ تَابُوا بِمُنَادَاةِ يُونَانَ، وَهُوَذَا أَعْظَمُ مِنْ يُونَانَ ههُنَا! متى 12: 41. وما هو الأمر الأعظم في المسيح من يونان؟ ففي حين أنَّ الرب هدَّد أهل نينوى بأن تنقلب مدينتهم، فإنَّ الرب يسوع أدهش اليهود بعجائبه التي تفوق الوصف، والمعجزة التي ترافق الرسالة هي دائماً وسيلة لتوصيل الناس إلى الإيمان


لماذا هرب يونان؟ ولماذا إلى ترشيش؟

هرب يونان إلى ترشيش من وجه الرب. (وترشيش هي التي تُدعَى في أيام القديس كيرلس تارسي في كيليكية. كما يُرجِّح البعض أنها هي طرسوس موطن شاول الطرسوسي - بولس الرسول). ولكن لماذا هرب إلى ترشيش؟ ربما لأنه كانت لديه فكرة أنَّ قوة الله كانت قاصرة على أرض إسرائيل، ولذلك فقد غادر اليهودية إلى إحدى المدن اليونانية

ويمكننا أن نتعرَّف على نفور يونان من تلك الإرسالية وعدم تحمُّسه لها من خوفه من عدم تحقيق الله لإنذاره بمعاقبة أهل نينوى، وذلك من كلامه هو إذ قال: آهِ يَا رَبُّ، أَلَيْسَ هذَا كَلاَمِي إِذْ كُنْتُ بَعْدُ فِي أَرْضِي؟ لِذلِكَ بَادَرْتُ إِلَى الْهَرَبِ إِلَى تَرْشِيشَ، لأَنِّي عَلِمْتُ أَنَّكَ إِلهٌ رَؤُوفٌ وَرَحِيمٌ بَطِيءُ الْغَضَبِ وَكَثِيرُ الرَّحْمَةِ وَنَادِمٌ عَلَى الشَّرِّ. فَالآنَ يَا رَبُّ، خُذْ نَفْسِي مِنِّي، لأَنَّ مَوْتِي خَيْرٌ مِنْ حَيَاتِي. يونان 4: 2 - 3

ولكن الرب أرسل ريحاً شديدة على البحر حتى صارت السفينة في خطر، وارتعب الملاَّحون وصرخوا كل واحد إلى إلهه، وطرحوا الأمتعة في البحر لتخفَّ الحمولة عن السفينة. أمَّا يونان فقد نزل إلى جوف السفينة ونام نوماً ثقيلاً. فَجَاءَ إِلَيْهِ رَئِيسُ النُّوتِيَّةِ وَقَالَ لَهُ: مَا لَكَ نَائِمًا؟ قُمِ اصْرُخْ إِلَى إِلهِكَ عَسَى أَنْ يَفْتَكِرَ الإِلهُ فِينَا فَلاَ نَهْلِكَ. يونان 1: 6. وإن كان يبدو أنه نام هكذا قبل هبوب العاصفة، إلاَّ أنَّ ذلك دلَّ على عدم مبالاته بإرساليته، وأنَّ اهتمامه انحصر في ذاته، ولكنه لم يتجاهل واجبه


اعتراف يونان بخطيئته

ولما ألقى الملاَّحون قرعتهم لمعرفة بسبب مَن هذه البلية... وقعت القرعة على يونان، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: هَلُمَّ نُلْقِي قُرَعًا لِنَعْرِفَ بِسَبَبِ مَنْ هذِهِ الْبَلِيَّةُ. فَأَلْقَوا قُرَعًا، فَوَقَعَتِ الْقُرْعَةُ عَلَى يُونَانَ. يونان 1: 7. وكان ذلك جزءاً من خطة الله، إذ اكتشفوا الشخص الذي ظنَّ أنه يمكنه أن يهرب من حضرة الله. ولما سألوه عن أمره، اعترف أنه هاربٌ من وجه الرب. فسألوه عمَّا يفعلونه به ليسكن البحر الذي كان يزداد اضطراباً، فاعترف بخطيئته فَقَالَ لَهُمْ: خُذُونِي وَاطْرَحُونِي فِي الْبَحْرِ فَيَسْكُنَ الْبَحْرُ عَنْكُمْ، لأَنَّنِي عَالِمٌ أَنَّهُ بِسَبَبِي هذَا النَّوْءُ الْعَظِيمُ عَلَيْكُمْ. يونان 1: 12. ولكنهم جَذَفُوا لِيُرَجِّعُوا السَّفِينَةَ إِلَى الْبَرِّ. يونان 1: 13، لأنهم أرادوا أن ينقذوا خادم الله ويأتوا به سالماً إلى الشاطئ، ولكنهم لَمْ يَسْتَطِيعُوا، لأَنَّ الْبَحْرَ كَانَ يَزْدَادُ اضْطِرَابًا عَلَيْهِمْ. يونان 1: 13. ثم «صرخوا إلى الرب وقالوا: آهِ يَا رَبُّ، لاَ نَهْلِكْ مِنْ أَجْلِ نَفْسِ هذَا الرَّجُلِ، وَلاَ تَجْعَلْ عَلَيْنَا دَمًا بَرِيئًا، لأَنَّكَ يَا رَبُّ فَعَلْتَ كَمَا شِئْتَ. ثُمَّ أَخَذُوا يُونَانَ وَطَرَحُوهُ فِي الْبَحْرِ، فَوَقَفَ الْبَحْرُ عَنْ هَيَجَانِهِ. يونان 1: 14 - 15

ولماذا سألوه عن موطنه الأصلي؟ لأنهم أرادوا، حسب رأيي، أن يعرفوا مَن هو الإله الذي أغضبه. فلما قال لهم إنه عبراني وإنه خائفٌ من إله السماء، تحقَّقوا من أنه هرب من وجه الله، لماذا؟ ذلك لأنَّ اليهود غير مسموح لهم أن يتركوا بلادهم المُخصَّصة لهم ويدخلوا مدناً وثنية... ولما هدأ البحر بمجرد أن طرحوا يونان فيه، يقول الكتاب: فَخَافَ الرِّجَالُ مِنَ الرَّبِّ خَوْفًا عَظِيمًا، وَذَبَحُوا ذَبِيحَةً لِلرَّبِّ وَنَذَرُوا نُذُورًا. يونان 1: 16. وهكذا انتفعوا من هذا الحدث بكونهم آمنوا أنه يوجد في الكون إله واحد وقدَّموا له ذبيحتهم


كيف عاش يونان

في جوف الحوت ثلاثة أيام؟

وَأَمَّا الرَّبُّ فَأَعَدَّ حُوتًا عَظِيمًا لِيَبْتَلِعَ يُونَانَ. يونان 1: 17. ونحن لا ندَّعي أنَّ الله يأمر الحيوانات كما يفعل معنا أو مع الملائكة. فإذا قيل إنه يأمر الحيوانات أو العناصر، فهذا يُشير إلى مشيئته كقانون وأمر، فنحن نرى أنَّ كل شيء يخضع لإرادته. وبالتالي فإنَّ إرادته الصالحة التي جعلت الحوت يبتلع يونان لم تُسبِّب ضرراً للنبي، حيث إنه ظلَّ فِي جَوْفِ الْحُوتِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَثَلاَثَ لَيَال. يونان 1: 17

هذه الحقيقة ربما بَدَت غير مُقنعة للبعض حتى أنهم لا يُصدِّقون أنه مكث حيّاً ثلاثة أيام في جوف الحوت، وكيف أن جسده لم يتحطَّم عند ابتلاعه؟ وكيف أمكنه أن يتحمل حرارة جسم الحوت ورطوبة أحشائه الشديدة؟ وكيف أنَّ الحوت لم يهضمه كبقية الأطعمة؟ ونجيب على ذلك بأنَّ القوة الإلهية يمكنها أن تُغيِّر طبيعة الكائنات الحية بسهولة إلى أيَّة حالة يختارها الله. ونحن نعلم أن الجنين في رَحِم أُمِّه يكون غاطساً في رطوبة طبيعية وكأنه مدفون في أحشاء أُمِّه، ولا يمكنه أن يتنفس، ولكنه يظل حيّاً ويتغذَّى بطريقة دبَّرها الله. إن تدابير الله لا يمكن أن يُدركها أحد بسهولة

وإذا اتخذنا يونان النبي كنموذج للخدمة التي تُدرَك في المسيح، فيمكن القول إنَّ العالم كله، منذ آدم، كان مُعرَّضاً للخطر، وإنَّ الجنس البشري كان متأثِّراً بعواصف وأمواج الخطية الهائجة، والمسرَّات الكئيبة التي لا تُطاق كانت تغمر البشر؛ إذ كان الجنس البشري مُهدَّداً بالفساد وتضربه رياح عنيفة، أي الشيطان وقُوَى الشر الخاضعة له والتي تعمل معه. فأشفق علينا الخالق وأرسل ابنه لكي يُهدِّئ العاصفة، وهكذا خلَّصنا بموت المسيح. وإذ هدأت العاصفة واستقرَّت الأمواج ساد السلام وتمتَّعنا بجوٍّ روحي صافٍ منذ أن تألَّم المسيح من أجلنا. وذلك كما أنَّ رُسل المسيح عندما صدمتهم الرياح العاتية والأمواج، أيقظوا الرب يسوع لكي ينقذهم؛ فقام وانتهر البحر وأنقذهم. وهكذا حدث مع الجنس البشري، فإننا بالمسيح قد تحرَّرنا من الموت والفساد والخطية والأهواء البشرية، وامتلأت حياتنا بالسلام


دَعَوْتُ مِنْ ضِيقِي الرَّبَّ، فَاسْتَجَابَنِي. يونان 2: 2

عاش يونان في جوف الحوت كمنزل له، ودون أن يشعر بأيِّ نوع من المؤثِّرات الرديئة على الجسد أو الذهن، شعر بمعونة إلهية إذ عَلِمَ أن الله خيِّر. ومن الناحية الأخرى، فإذ لم يكن على دراية بأن ما حدث كان نتيجةً لنفوره من خدمته؛ فقد اتجه إلى الصلاة ناطقاً بمشاعر الشكر معترفاً بمجد الله مخلِّصه. وقوله إنَّ الرب استجاب له فقد تحقَّق من ذلك مُسْبقاً، في رأيي، بروحٍ نبوية. وقوله: صَرَخْتُ مِنْ جَوْفِ الْهَاوِيَةِ. يونان 2: 2 الذي كان يقصد به معدة الحوت، فقد قارَن هذا الوحش بالجحيم والموت، إذ عرف كيف يقتل ضحيته ويلتهمها بوحشية

طَرَحْتَنِي فِي الْعُمْقِ فِي قَلْبِ الْبِحَارِ، فَأَحَاطَ بِي نَهْرٌ. جَازَتْ فَوْقِي جَمِيعُ تَيَّارَاتِكَ وَلُجَجِكَ. فَقُلْتُ: قَدْ طُرِدْتُ مِنْ أَمَامِ عَيْنَيْكَ. يونان 2: 3 - 4. إنه يُرجِع هذا الحدث إلى نعمةٍ من فوق، وينسب إلى الأحكام الإلهية إمكانية الإنقاذ بسهولة من كل ضيقة. ويقول إنه كان في عمق البحر وفي صخب المياه التي تجيش وتُغرقه كأمواج غامرة، وقد أدرك في تلك المحنة أنه كان يُعاني من الغضب الإلهي، وأنه قد صار يائساً من إنقاذه، وهذا شعورٌ مُرعب. ثم قال: هل حقّاً لن أعود وأنظر إلى هيكل قدسك؟ يون 2: 4 سبعينية... وَلكِنَّنِي أَعُودُ أَنْظُرُ إِلَى هَيْكَلِ قُدْسِكَ. يونان 2: 4. لقد كان على درايةٍ أنه قد حُفظ بقوة الله الذي أعانه على الحياة في جوف الوحش مما يفوق التصديق. وربما كان يشكُّ إن كان الوحش سيقذف به إلى ضوء النهار مرة أخرى. ومن الناحية الأخرى، فقد اعتبر أنَّ رجوعه إلى هيكل الله لكي يُمجِّد ذاك الذي أنقذه أمراً شهياً ويحتاج إلى صلاة لكي يحصل على تلك النعمة

قَدِ اكْتَنَفَتْنِي مِيَاهٌ إِلَى النَّفْسِ. أَحَاطَ بِي غَمْرٌ. الْتَفَّ عُشْبُ الْبَحْرِ (أو الحلفاء) بِرَأْسِي. نَزَلْتُ إِلَى أَسَافِلِ الْجِبَالِ (هبطت رأسي إلى شقوق الجبال - سبعينية). مَغَالِيقُ الأَرْضِ عَلَيَّ إِلَى الأَبَدِ (هبطتُ إلى عمق الأرض التي قضبانها هي المغاليق الأبدية - سبعينية). ثُمَّ أَصْعَدْتَ مِنَ الْوَهْدَةِ حَيَاتِي أَيُّهَا الرَّبُّ إِلهِي (لكنك أيها الرب إلهي سترفع حياتي من الهاوية - حسب الترجمة العربية المشتركة؛ أو دَع حياتي المُحطَّمة تتجدَّد - سبعينية). يونان 2: 5 - 6

إذ شعر يونان أنَّ الرب أنقذه حتى الآن، فكان ينوي أن يُقدِّم له أروع أناشيد الشكر. وحسب رأيي، فإنَّ كلمة المغاليق أو القضبان تعني أنها غير قابلة للكسر فلا يتغلَّب عليها أحد. وكونه لم يَمُت ولم يتألم من أيِّ شيء يتعلَّق بالموت أو الفساد، فقد ترجَّى، بشعوره النبوي، أن يُنقذه الله بإخراجه من جوف الحوت كما من الهاوية. ثم قال: حِينَ أَعْيَتْ فِيَّ نَفْسِي ذَكَرْتُ الرَّبَّ، فَجَاءَتْ إِلَيْكَ صَلاَتِي إِلَى هَيْكَلِ قُدْسِكَ (أو لعل صلاتي تأتي إليك إلى هيكلك المقدس - سبعينية). يونان 2: 7

إنَّ الضيقات ليست بلا منفعة للذين يُجرَّبون بها، ولذلك قال بولس الرسول: الضِّيقَ يُنْشِئُ صَبْرًا، وَالصَّبْرُ تَزْكِيَةً، وَالتَّزْكِيَةُ رَجَاءً، وَالرَّجَاءُ لاَ يُخْزِي. رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية 5: 3 - 5. فلما تعرَّضت حياة يونان للخطر وبلغت ضيقته إلى أقصاها، التجأ إلى شيء نافع له وليس مثل الذين يُفسِحون المجال لليأس؛ بل ذَكَر ذاك الذي يُنقذ. فصرخ إليه عالياً، إذ كان على درايةٍ بقدرته

اَلَّذِينَ يُرَاعُونَ أَبَاطِيلَ كَاذِبَةً يَتْرُكُونَ نِعْمَتَهُمْ. أَمَّا أَنَا فَبِصَوْتِ الْحَمْدِ (والاعتراف) أَذْبَحُ لَكَ، وَأُوفِي بِمَا نَذَرْتُهُ. لِلرَّبِّ الْخَلاَصُ (أوفي بما نذرته لك أيها الرب خلاصي - سبعينية). يونان 2: 8 - 9. أي أنَّ الذين يُقدِّمون ولاءهم للآلهة الكاذبة ينبذون الرحمة التي كان ينبغي أن يطلبوها من الرب. أما أنا فأعلم أنك طيِّبٌ ورؤوف، ولذلك فإنني أعترف لك وأُقدِّم لك تسابيح مثل بخور عَطِر، أي ذبائح شُكر روحية. وأوفي لك نذور خلاصي بكل غيرة، أي تلك التي سبَّبت إنقاذي وكانت نافعة لحياتي. وهذا كان استجابةً للخدمة النبوية التي يريدها الله حيث زال كل نفور وجُبن. ولعل ذلك كان رمزاً للمسيح الذي في ضيقه قال للآب: يَا أَبَتَاهُ، إِنْ أَمْكَنَ فَلْتَعْبُرْ عَنِّي هذِهِ الْكَأْسُ. متى 26: 39. وهنا نتذكَّر قول الرسول بطرس مُستشهِداً بما قاله داود النبي: لأَنَّكَ لَنْ تَتْرُكَ نَفْسِي فِي الْهَاوِيَةِ وَلاَ تَدَعَ قُدُّوسَكَ يَرَى فَسَادًا. أعمال الرسل 2: 27. وهكذا فإنَّ جسد يونان أيضاً لم يَرَ فساداً، وبعد ثلاثة أيام رجع إلى الحياة؛ تماماً كما أنه كان يستحيل أن يخضع الرب، الذي هو الحياة بطبيعته، لقيود الموت

وَأَمَرَ الرَّبُّ الْحُوتَ فَقَذَفَ يُونَانَ إِلَى الْبَرِّ. يونان 2: 10. وهكذا تلقَّى الحوت الأمر مرةً أخرى بقوة إلهية لا توصف لتنفيذ إرادة الله، فحرَّر من أحشائه النبي الذي انتفع من المحنة، أو بالحري تشجَّع بتلك الخبرة واكتسب معرفةً صافيةً بأنه من المخاطرة أن يُقاوِم الأحكام الإلهية



مناداة يونان في نينوى

ثم صار قول الرب إلى يونان ثانيةً قائلاً: قُمْ اذهب إلى نينوى المدينة العظيمة وعِظْها بالرسالة التي أخبرتُك عنها من قبل. يون 3: 1 - 2 سبعينية. ثُمَّ صَارَ قَوْلُ الرَّبِّ إِلَى يُونَانَ ثَانِيَةً قَائِلاً: قُمِ اذْهَبْ إِلَى نِينَوَى الْمَدِينَةِ الْعَظِيمَةِ، وَنَادِ لَهَا الْمُنَادَاةَ الَّتِي أَنَا مُكَلِّمُكَ بِهَا. يونان 3: 1 - 2

انتهز الله فرصة حماس يونان وأَمَرَه أن يذهب إلى نينوى مرةً أخرى بنفس الرسالة. وقد شابه يونان المسيح الذي مكث في باطن الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ، إذ ذهب إلى أعماق قلب البحر، وكأنه نزل إلى أسافل الجبال، وهبط إلى مغاليق الأرض التي أغلقت عليه قضبانها بإحكام

ولكن المسيح سَلَبَ الجحيم وبشَّر الأرواح الموجودة هناك، وفَتَحَ الأبواب الموصدة، وعاد إلى الحياة مرةً أخرى إذ تحررت حياته من الفساد، وظهر بحالته هذه لأولئك النسوة اللائي كُنَّ يبحثن عنه ثم للرسل

ثم إنَّ رسالة الرب وصلت أخيراً أيضاً إلى الأمميين بواسطة الرسل المباركين. ومع أنه كان قد قال للرسل: إِلَى طَرِيقِ أُمَمٍ لاَ تَمْضُوا، وَإِلَى مَدِينَةٍ لِلسَّامِرِيِّينَ لاَ تَدْخُلُوا. بَلِ اذْهَبُوا بِالْحَرِيِّ إِلَى خِرَافِ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ الضَّالَّةِ. متى 10: 5 - 6؛ إلاَّ أنه جعلهم يبشِّرون أخيراً برسالته التي جاء من أجلها للجميع. وكانت وصايا إنجيله واحدة لكلٍّ من إسرائيل والأُمم الذين نحن منهم والذين دُعينا إلى القداسة بواسطة الإيمان

فَقَامَ يُونَانُ وَذَهَبَ إِلَى نِينَوَى بِحَسَبِ قَوْلِ الرَّبِّ. أَمَّا نِينَوَى فَكَانَتْ مَدِينَةً عَظِيمَةً للهِ مَسِيرَةَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ. فَابْتَدَأَ يُونَانُ يَدْخُلُ الْمَدِينَةَ مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَاحِدٍ، وَنَادَى وَقَالَ: بَعْدَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا تَنْقَلِبُ نِينَوَى. يونان 3: 3 - 4 ونادَى وقال: بعد ثلاثة أيام تنقلب نينوى (يون 3: 3 ، 4 سبعينية). لقد مُنح النبي غيرةً لا تُقاوَم، وانطلق إلى مهمته بنشاط ودخل تلك المدينة الأجنبية لكي يوفي الأحكام الإلهية

ورغم أنها كانت مدينة كبيرة ممتدة حتى أنها تتطلَّب مسيرة ثلاثة أيام؛ ولكنه عَبَرَها في يوم واحد، بقوة إلهية طبعاً، وأعلن الرسالة الإلهية. لقد أثار دهشتهم إذ أنه رجل عبراني آتٍ من بلاد أجنبية غير معروفة لأحد هناك، وقد سار وسط المدينة وهو يصيح بصوتٍ عالٍ: بعد ثلاثة أيام تنقلب نينوى (يون 3: 3 ، 4 سبعينية). يونان 3: 3 - 4

وقد تكلَّم النبي ليس من ذاته بل من فم الرب. والأنبياء غالباً لا يذكرون كل ما قاله الله لهم ولا كل الكلام الذي قالوه هم لله. ونحن نستنتج ذلك من قوله لله: آهِ يَا رَبُّ، أَلَيْسَ هذَا كَلاَمِي إِذْ كُنْتُ بَعْدُ فِي أَرْضِي؟ لِذلِكَ بَادَرْتُ إِلَى الْهَرَبِ إِلَى تَرْشِيشَ، لأَنِّي عَلِمْتُ أَنَّكَ إِلهٌ رَؤُوفٌ وَرَحِيمٌ بَطِيءُ الْغَضَبِ وَكَثِيرُ الرَّحْمَةِ وَنَادِمٌ عَلَى الشَّرِّ. فَالآنَ يَا رَبُّ، خُذْ نَفْسِي مِنِّي، لأَنَّ مَوْتِي خَيْرٌ مِنْ حَيَاتِي. يونان 4: 2 - 3


استجابة أهل نينوى بالإيمان والتوبة

فَآمَنَ أَهْلُ نِينَوَى بِاللهِ وَنَادَوْا بِصَوْمٍ وَلَبِسُوا مُسُوحًا مِنْ كَبِيرِهِمْ إِلَى صَغِيرِهِمْ. يونان 3: 5. آمن هذا الشعب بالله، هذا الذي كان مُداناً بسبب كل خطاياه المتأصِّلة فيه وأصنامه التي بلا عدد، وممارساته الشعبية المُخجلة. ومع ذلك فقد آمنوا بالله من كبيرهم إلى صغيرهم، الشهير والحقير، الغَني والفقير، الجميع شعروا بنفس الغيرة في قبول كلام النبي، وقد استجابوا لدعوته بدون تردُّد لإصلاح أنفسهم، وخضعوا للإنذار الإلهي الذي دعاهم للتوبة رغم أنه جاء من أجنبي وحيد لا يعرفونه. في حين أنَّ إسرائيل بغبائه لم يُطِع الناموس وسخر من الوصايا الموسوية ولم يستوعب كلام الأنبياء؛ بل إنهم صاروا قاتلين للرب، ولم يؤمنوا بالمُخلِّص

وهذا هو ما قاله الله لحزقيال النبي: اذْهَبِ امْضِ إِلَى بَيْتِ إِسْرَائِيلَ وَكَلِّمْهُمْ بِكَلاَمِي. لأَنَّكَ غَيْرُ مُرْسَل إِلَى شَعْبٍ غَامِضِ اللُّغَةِ وَثَقِيلِ اللِّسَانِ، بَلْ إِلَى بَيْتِ إِسْرَائِيلَ. لاَ إِلَى شُعُوبٍ كَثِيرَةٍ غَامِضَةِ اللُّغَةِ وَثَقِيلَةِ اللِّسَانِ لَسْتَ تَفْهَمُ كَلاَمَهُمْ. فَلَوْ أَرْسَلْتُكَ إِلَى هؤُلاَءِ لَسَمِعُوا لَكَ. لكِنَّ بَيْتَ إِسْرَائِيلَ لاَ يَشَاءُ أَنْ يَسْمَعَ لَكَ، لأَنَّهُمْ لاَ يَشَاؤُونَ أَنْ يَسْمَعُوا لِي. لأَنَّ كُلَّ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ صِلاَبُ الْجِبَاهِ وَقُسَاةُ الْقُلُوبِ. حزقيال 3: 4 - 7

وَبَلَغَ الأَمْرُ مَلِكَ نِينَوَى، فَقَامَ عَنْ كُرْسِيِّهِ وَخَلَعَ رِدَاءَهُ عَنْهُ، وَتَغَطَّى بِمِسْحٍ وَجَلَسَ عَلَى الرَّمَادِ. وَنُودِيَ وَقِيلَ فِي نِينَوَى عَنْ أَمْرِ الْمَلِكِ وَعُظَمَائِهِ قَائِلاً: لاَ تَذُقِ النَّاسُ وَلاَ الْبَهَائِمُ وَلاَ الْبَقَرُ وَلاَ الْغَنَمُ شَيْئًا. لاَ تَرْعَ وَلاَ تَشْرَبْ مَاءً. وَلْيَتَغَطَّ بِمُسُوحٍ النَّاسُ وَالْبَهَائِمُ، وَيَصْرُخُوا إِلَى اللهِ بِشِدَّةٍ، وَيَرْجِعُوا كُلُّ وَاحِدٍ عَنْ طَرِيقِهِ الرَّدِيئَةِ وَعَنِ الظُّلْمِ الَّذِي فِي أَيْدِيهِمْ، لَعَلَّ اللهَ يَعُودُ وَيَنْدَمُ وَيَرْجعُ عَنْ حُمُوِّ غَضَبِهِ فَلاَ نَهْلِكَ. يونان 3: 6 - 9. لقد أظهر مديحه لاستجابتهم بتفاصيل كاملة، وأُعجب جداً باستعدادهم للتوبة. وحتى ملكهم ترك عرشه ورداءه الملكي وتغطَّى بالمسوح رداء النوح. وإذ جلس على الرماد، أعطى مثالاً لغيره لكي يُمسِكوا عن الطعام ويُصلُّوا بلا انقطاع متوسِّلين إلى الله لأجل الرحمة

لقد كان أهل نينوى حكماء، إذ كرَّسوا أنفسهم للإقلاع عن الفساد بواسطة الصوم الذي هو العمل الأصيل الوحيد للتوبة. أمَّا شعب إسرائيل فلم يهتموا بذلك بل أنهم أحياناً كانوا يُقدِّمون صوماً يُعتبر دنساً كما قال إشعياء النبي: هَا إِنَّكُمْ فِي يَوْمِ صَوْمِكُمْ تُوجِدُونَ مَسَرَّةً، وَبِكُلِّ أَشْغَالِكُمْ تُسَخِّرُونَ. هَا إِنَّكُمْ لِلْخُصُومَةِ وَالنِّزَاعِ تَصُومُونَ، وَلِتَضْرِبُوا بِلَكْمَةِ الشَّرِّ. لَسْتُمْ تَصُومُونَ كَمَا الْيَوْمَ لِتَسْمِيعِ صَوْتِكُمْ فِي الْعَلاَءِ. أَمِثْلُ هذَا يَكُونُ صَوْمٌ أَخْتَارُهُ؟ يَوْمًا يُذَلِّلُ الإِنْسَانُ فِيهِ نَفْسَهُ. إشعياء 58: 3 - 5

أما أهل نينوى، فقد آمنوا بالله وقدَّموا صوماً نقياً بلا لوم، إذ اعتقدوا أنه لَعَلَّ اللهَ يَعُودُ وَيَنْدَمُ وَيَرْجعُ عَنْ حُمُوِّ غَضَبِهِ. يونان 3: 9 بسبب صلاحه وطيبة قلبه. ومن الناحية الأخرى فهو يُعاقب الخطاة والذين يتورطون في القساوة بعناد، إذ يفرض غضبه كنوع من اللجام لكي يُعنِّفهم ويأتي بهم إلى الإذعان. أمَّا بخصوص صوم البهائم، فقد كان نوعاً من المغالاة، وليس من الضروري أن يكون قد حدث ذلك، ولكن الكتاب ذكر ذلك لكي يُوضِّح درجة توبتهم غير العادية! إنه ينسب المعاناة أيضاً للحيوانات


رجوع الله عن غضبه

فَلَمَّا رَأَى اللهُ أَعْمَالَهُمْ أَنَّهُمْ رَجَعُوا عَنْ طَرِيقِهِمِ الرَّدِيئَةِ، نَدِمَ اللهُ عَلَى الشَّرِّ الَّذِي تَكَلَّمَ أَنْ يَصْنَعَهُ بِهِمْ، فَلَمْ يَصْنَعْهُ. يونان 3: 10. هكذا يُسرع الرب في إظهار رحمته وخلاصه للتائبين. وهو يُريحهم في الحال من جرائمهم السابقة إذا كفُّوا عن خطاياهم، وهو يرفع غضبه ويُبدِّله بمعاملة طيِّبة. وهو ما قاله الرب لحزقيال النبي: لِمَاذَا تَمُوتُونَ يَا بَيْتَ إِسْرَائِيلَ؟ لأَنِّي لاَ أُسَرُّ بِمَوْتِ مَنْ يَمُوتُ، يَقُولُ السَّيِّدُ الرَّبُّ، فَارْجِعُوا وَاحْيَوْا. حزقيال 18: 31 - 32

فَغَمَّ ذلِكَ يُونَانَ غَمًّا شَدِيدًا، فَاغْتَاظَ. وَصَلَّى إِلَى الرَّبِّ وَقَالَ: آهِ يَا رَبُّ، أَلَيْسَ هذَا كَلاَمِي إِذْ كُنْتُ بَعْدُ فِي أَرْضِي؟ لِذلِكَ بَادَرْتُ إِلَى الْهَرَبِ إِلَى تَرْشِيشَ، لأَنِّي عَلِمْتُ أَنَّكَ إِلهٌ رَؤُوفٌ وَرَحِيمٌ بَطِيءُ الْغَضَبِ وَكَثِيرُ الرَّحْمَةِ وَنَادِمٌ عَلَى الشَّرِّ. فَالآنَ يَا رَبُّ، خُذْ نَفْسِي مِنِّي، لأَنَّ مَوْتِي خَيْرٌ مِنْ حَيَاتِي. يونان 4: 1 - 3

فطالما أنَّ الله رؤوف على الذين يتفادون غضبه بالتوبة، وحتى لو مضى الوقت على إتمام ما كان مُقدَّراً لهم، وما تنبَّأ به عليهم النبي كان قد جاء وقت حدوثه؛ ومع ذلك فإنه لم يحدث، لذلك شعر يونان بغمٍّ شديد، وذلك ليس لأن انقلاب المدينة لم يحدث، ولكن لأنهم أخذوا عنه انطباعاً بأنه كاذبٌ مهذار. لقد أراد أن يتجنَّب ذلك فأقرَّ بأنه هرب إلى ترشيش، حتى لا يكون موقفه مهزوزاً لأنه اعترض على الله الذي يعلم كل شيء ويمكنه أن يُغيِّر فكر الإنسان، فهو شافي الأرواح الـذي يمكنه أن يُهدِّئ ضـراوة شهواتـنا بالمصاعب أحياناً وبأعمال رحمته أحياناً أخرى


اكتئاب يونان وتشجيع الله له

فَقَالَ الرَّبُّ: هَلِ اغْتَظْتَ بِالصَّوَابِ (أو بالحقِّ)؟. وَخَرَجَ يُونَانُ مِنَ الْمَدِينَةِ وَجَلَسَ شَرْقِيَّ الْمَدِينَةِ، وَصَنَعَ لِنَفْسِهِ هُنَاكَ مَظَلَّةً وَجَلَسَ تَحْتَهَا فِي الظِّلِّ، حَتَّى يَرَى مَاذَا يَحْدُثُ فِي الْمَدِينَةِ؟. يونان 4: 4 - 5. فلكي لا يجعل الله النبي فريسةً للاكتئاب، زوَّده بالحيوية في ضعفه، مؤنِّباً إيَّاه برقَّةٍ على هذا الاكتئاب وعلى فشله في إدراك الغرض من الأحكام الإلهية، إذ مـرت الأيام ولم يُنفِّذ الله تهديده لهم

لقد اعتقد أن الكارثة تأجَّلت بسبب أنهم قرَّروا أن يتوبوا، ولكن الغضب الإلهي سوف تظهر نتائجه إنْ لم يصنعوا أعمالاً تليق بالتوبة وتتناسب مع خطاياهم. ولذلك ترك النبي المدينة لكي ينتظر ما سيحدث لهم، وتوقَّع أن المدينة ربما تحترق مثل سدوم، ولكن خيمته في الواقع هي التي تحطَّمت

فَأَعَدَّ الرَّبُّ الإِلهُ يَقْطِينَةً (شجرة خروع) فَارْتَفَعَتْ فَوْقَ يُونَانَ لِتَكُونَ ظِلاُ عَلَى رَأْسِهِ، لِكَيْ يُخَلِّصَهُ مِنْ غَمِّهِ. فَفَرِحَ يُونَانُ مِنْ أَجْلِ الْيَقْطِينَةِ فَرَحًا عَظِيمًا. يونان 4: 6. هكذا أعدَّ الرب اليقطينة لفائدة النبي، كما أعدَّ الحوت لكي يبتلعه. فكبرت اليقطينة سريعاً، ليس فقط لتُظلِّله من الحرِّ، بل الأهم هو لِكَيْ يُخَلِّصَهُ مِنْ غَمِّهِ. يونان 4: 6 فشعر يونان بالسعادة والميل إلى الاحتفاظ ببساطة الذهـن مثل الأطفال الذيـن تشغلهم الأشياء المُفرحـة عمَّا يُحزنهم

ثُمَّ أَعَدَّ اللهُ دُودَةً عِنْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ في الْغَدِ، فَضَرَبَتِ الْيَقْطِينَةَ فَيَبِسَتْ. وَحَدَثَ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ أَنَّ اللهَ أَعَدَّ رِيحًا شَرْقِيَّةً حَارَّةً، فَضَرَبَتِ الشَّمْسُ عَلَى رَأْسِ يُونَانَ فَذَبُلَ. فَطَلَبَ لِنَفْسِهِ الْمَوْتَ، وَقَالَ: مَوْتِي خَيْرٌ مِنْ حَيَاتِي. يونان 4: 7 - 8

والمقصود من الدودة عند الفجر هو الجراد لأنه يتخذ وجوده من ندى الصباح. وضَرَبَ الجراد اليقطينة بقسوة، فلما يبست وهبَّت الريح الحارة حُرِمَ النبي من الظل فتفاقم سُخطه حتى اشتهى الموت


الله يوضِّح الهدف من القصة كلها

فَقَالَ اللهُ لِيُونَانَ: هَلِ اغْتَظْتَ بِالصَّوَابِ (أو بالحقِّ) مِنْ أَجْلِ الْيَقْطِينَةِ؟ فَقَالَ: اغْتَظْتُ بِالصَّوَابِ حَتَّى الْمَوْتِ. يونان 4: 9. لاحِظ مرةً أخرى إله الجميع في معاملته الرقيقة وحبه للنفوس البريئة، وأنه لا يُقصِّر بأيِّ حال عن إبداء عاطفة الأُبوَّة. فلم يَعُد يونان يلوم رِقَّة الحب الإلهي عندما قرَّر أن يُشفق على أهل نينوى؛ بل اعترف بغيظه مِمَّا جعل الله يشرح له سبب تدبيره لتلك القصة كلها

فَقَالَ الرَّبُّ: أَنْتَ شَفِقْتَ عَلَى الْيَقْطِينَةِ الَّتِي لَمْ تَتْعَبْ فِيهَا وَلاَ رَبَّيْتَهَا، الَّتِي بِنْتَ لَيْلَةٍ كَانَتْ وَبِنْتَ لَيْلَةٍ هَلَكَتْ. أَفَلاَ أَشْفَقُ أَنَا عَلَى نِينَوَى الْمَدِينَةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي يُوجَدُ فِيهَا أَكْثَرُ مِنِ اثْنَتَيْ عَشَرَةَ رِبْوَةً مِنَ النَّاسِ الَّذِينَ لاَ يَعْرِفُونَ يَمِينَهُمْ مِنْ شِمَالِهِمْ، وَبَهَائِمُ كَثِيرَةٌ؟. يونان 4: 10 - 11

كيف يمكننا أن نفتح أفواهنا لنُقدِّم تسابيح الشكر لذاك المملوء بالرأفة والصلاح؟ إنَّ الرب يُبعد عنا معاصينا، فهو مثل أب يُبدي الرأفة على أبنائه، هكذا هو يتراءف على الذين يخافونه لأنه يعرف جبلتنا (انظر مز 103: 12 - 14). كَبُعْدِ الْمَشْرِقِ مِنَ الْمَغْرِبِ أَبْعَدَ عَنَّا مَعَاصِيَنَا. كَمَا يَتَرَأَفُ الأَبُ عَلَى الْبَنِينَ يَتَرَأَفُ الرَّبُّ عَلَى خَائِفِيهِ. لأَنَّهُ يَعْرِفُ جِبْلَتَنَا. يَذْكُرُ أَنَّنَا تُرَابٌ نَحْنُ. المزامير 103: 12 - 14

لاحِظ كيف يُظهِر الرب اكتئاب يونان في وقت غير مناسب رغم كونه ملتزماً أن يمدح الرب على صلاحه كنبي قديس. فإذا كان هو قد بلغ إلى اكتئابٍ فائق الحدِّ بسبب ذبول اليقطينة، أفلا يُشفق الرب على كل هذا الشعب الذي لا يعرف يمينه من شماله؟ كما أنه يُشير إلى شفقته على البهائم، لأنه إن كان الصِّدِّيق يُشفق على نفس بهيمته (أم 12: 10 سبعينية).. الصِّدِّيقُ يُرَاعِي نَفْسَ بَهِيمَتِهِ، أَمَّا مَرَاحِمُ الأَشْرَارِ فَقَاسِيَةٌ. الأمثال 12: 10، وهذا يُضاف إلى فضله، فلا غرابة أن يُشفق الرب على البهائم أيضاً

وهذه هي الطريقة التي خلَّص بها المسيح كل أحد، إذ بذل نفسه لأجل الصغير والكبير، الحكيم والجاهل، الغني والفقير، اليهودي واليوناني، والذي قيل عنه: النَّاسَ وَالْبَهَائِمَ تُخَلِّصُ يَا رَبُّ. مَا أَكْرَمَ رَحْمَتَكَ يَا اَللهُ! فَبَنُو الْبَشَرِ فِي ظِلِّ جَنَاحَيْكَ يَحْتَمُونَ. المزمور 36: 6 - 7، الذي له المجد والقوة مع الآب والروح القدس الصالح والمُحيي إلى الأبد، آمين


مجلة مرقس – رسالة الفكر المسيحي للشباب والخُدَّام – يصدرها دير القديس أنبا مقار – ببرية شيهيت – السنة 56 – العدد 531 – فبراير 2012م – طوبة / أمشير 1728ش
مجلة مرقس – رسالة الفكر المسيحي للشباب والخُدَّام – يصدرها دير القديس أنبا مقار – ببرية شيهيت – السنة 56 – العدد 532 – مارس 2012م – أمشير / برمهات 1728ش


http://www.stmacariusmonastery.org/
http://www.stmacariusmonastery.org/st_mark/sm021204.htm
http://www.stmacariusmonastery.org/st_mark/sm031204.htm

 

Share

No comments:

Post a Comment

Facebook Comments

Twitter

I Read

Word of the Day

Quote of the Day

Article of the Day

This Day in History

Today's Birthday

In the News