Thursday, May 7, 2009

ظلمة الآلام.. ونور القيامة

ظلمة الآلام.. ونور القيامة
نيافة الانبا رافائيل

يحتل الأسبوع الأخير في حياة ربنا يسوع المسيح بالجسد على الأرض مكانًا هامًا جدًا في الفكر المسيحي، لدرجة أن القديس يوحنا الإنجيلي أفرد لهذا الأسبوع نصف إنجيله المقدس (عشرة إصحاحات من جملة 21 أصحاح). واشترك باقي الإنجيليين في سرد تفاصيل أحداث هذا الأسبوع المقدس. والكنيسة أيضًا تتعامل مع هذا الأسبوع باعتبار خاص وعالي في طقسها ومتابعتها للسيد المسيح خطوة خطوة حتى الصليب والدفن والقيامة.
والمُطالع لأحداث هذا الأسبوع يُفاجأ بعبارة تتكر كثيرًا هي: "لم يفهموا"، فمن أبرز ما يُميز هذا الأسبوع أن الرب يسوع كان يتكلم مع تلاميذه وهم غير فاهمين، والغريب أنه لم يهتم أن يشرح لهم مؤجلاً ذلك إلى ما بعد القيامة.. فقيل:
+ "وأمّا هم فلم يَفهَموا من ذلك شيئًا، وكان هذا الأمر مُخفى عنهم، ولم يَعلَموا ما قيلَ" (لو18: 34).
+ "وأمّا هم فلم يَفهَموا القول، وخافوا أن يَسألوه" (مر9: 32). وذلك عندما تكلم عن موته وقيامته.
+ "وأمّا هم فلم يَفهَموا هذا القول، وكان مُخفى عنهم لكي لا يَفهَموه، وخافوا أن يَسألوه عن هذا القول" (لو9: 45).
+ "وأمّا هم فلم يَفهَموا ما هو الذي كان يُكلمُهُم به" (يو10: 6).
+ "وهذه الأُمور لم يَفهَمها تلاميذه أولاً، ولكن لمّا تمَجَّد يسوع، حينئذٍ تذَكَّروا أن هذه كانت مَكتوبة عنه، وأنهم صنعوا هذه له" (يو12: 16).
إن عدم الفهم الذي عاش فيه تلاميذ الرب في الأسبوع الأخير يُعبِّر عن الغموض الذي كان يكتنف التدبير الإلهي منذ سقوط آدم وحتى مجيء السيد المسيح متجسدًا.
لقد كان يتكلم الله مع الإنسان بالرموز والإشارات والنبوات، ولم يكن الإنسان يعرف بصورة واضحة فكر الله ومقاصده الإلهية.. كان الأمر يحتاج أن يأتي الله إلينا بنفسه ليكلمنا بفمه الطاهر: "الله، بعد ما كلَّم الآباء بالأنبياء قديمًا، بأنواع وطُرُق كثيرة، كلمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه" (عب1: 1-2).
جاء السيد المسيح يكلّمنا عن الآب:
+ "أنا أظهَرت اسمَكَ للناس الذين أعطَيتَني من العالم. كانوا لكَ وأعطَيتَهُم لي، وقد حَفِظوا كلامَك" (يو17: 6).
+ "لأن الكلام الذي أعطَيتَني قد أعطَيتُهُم" (يو17: 8).
+ أيها الآب البار، إن العالم لم يَعرِفكَ، أمّا أنا فعَرَفتُك، وهؤلاء عَرَفوا أنكَ أنتَ أرسلتني. وعَرَّفتُهُم اسمَك وسأُعَرفُهم، ليكون فيهم الحب الذي أحببتني به، وأكون أنا فيهم" (يو17: 25-26).
وكذلك كلّمنا عن الروح القدس: "روح الحَق الذي لا يستطيع العالم أن يَقبَلهُ، لأنه لا يَراهُ ولا يَعرِفُه، وأمّا أنتم فتعرِفونَه لأنه ماكِث معكم ويكون فيكم" (يو14: 17).
وكان كلام السيد المسيح واضحًا كل الوضوح، وحتى حينما كان يتكلم بمَثَل كان يشرحه لتلاميذه بناء على طلبهم: "فتقدَّم التلاميذ وقالوا له: لماذا تُكلمُهُم بأمثالٍ؟. فأجاب وقال لهم: لأنه قد أُعطيَ لكم أن تعرِفوا أسرار ملكوت السماوات، وأمّا لأولئك فلم يُعطَ. فإن مَنْ له سيُعطى ويُزاد، وأمّا من ليس له فالذي عنده سيؤخَذ منه. من أجل هذا أُكلمُهُم بأمثالٍ، لأنهم مُبصِرين لا يُبصرون، وسامعين لا يَسمعون ولا يَفهمون" (مت13: 10-13).
حقًا قال الرب يسوع: "أحمَدُك أيها الآب رب السماء والأرض، لأنك أخفَيت هذه عن الحُكماء والفُهماء وأعلَنتَها للأطفال. نعم أيها الآب، لأن هكذا صارت المَسرَّة أمامك. كل شيءٍ قد دُفِع إليَّ من أبي، وليس أحد يَعرِف الابن إلا الآب، ولا أحد يَعرِف الآب إلا الابن ومَنْ أراد الابن أن يُعلِنَ له" (مت11: 25-27).
أما في الأسبوع الأخير فلم يعد الأمر هكذا، بل كان السيد المسيح يتكلم بغموض، ولم يعطِ فرصة لتلاميذه أن يسألوا، ولم يبادرهم بالشرح.. وكأن الزمان يتكثف في هذا الأسبوع ليُعبِّر عن حال البشر قبل الصليب.
إنها حالة اللا فهم واللا إدراك لقصد الله التي عاشها الناس قبل الفداء. لقد أراد السيد المسيح أن يُلامسهم ملامسة كثيفة مع حالة البشرية الساقطة الجاهلة، التي تحتاج إلى نور إعلانه المقدس بالقيامة، لتفهم قصد الله وتدبيراته.
ولعل هذا الغموض أيضًا كان تدبيرًا إلهيًا حتى لا يتعطل تدبير الصليب المقدس، كما قيل: "لو عَرَفوا لَما صَلَبوا رب المجد" (1كو2: 8).
وكذلك لكي يعيشوا في ظلام فكري وعدم معرفة تسبق انبعاث نور القيامة المقدس ليتضح مجد بهاء القيامة، حيث قيل: "حينئذٍ فتح ذهنَهُم ليَفهَموا الكُتُب" (لو24: 45).
وقد عبَّر عن هذه الاستنارة تلميذا عمواس بقولهما: "ألم يكن قلبنا مُلتهِبًا فينا إذ كان يُكلمنا في الطريق ويوضِح لنا الكُتُب؟" (لو24: 32).
لقد أعطاهم السيد المسيح الفرصة للشرح بعد القيامة.. "أما كان ينبغي أن المسيح يتألَّم بهذا ويَدخُل إلى مَجده؟ ثم ابتدأَ من موسى ومن جميع الأنبياء يُفَسر لهما الأمور المُختصة به في جميع الكُتُب" (لو24: 26-27).
ومرة أخرى في العلية مساء عندما ظهر لهم مجتمعين "وقال لهم: هذا هو الكلام الذي كلَّمتكم به وأنا بعد معكم: أنه لا بُد أن يتمَّ جميع ما هو مَكتوب عني في ناموس موسى والأنبياء والمزامير. حينئذٍ فتح ذِهنهُم ليفهموا الكُتُب. وقال لهم: هكذا هو مكتوب، وهكذا كان ينبغي أن المسيح يتألَّم ويَقوم من الأموات في اليوم الثالث، وأن يُكرَز باسمِه بالتوبة ومغفرة الخطايا لجميع الأمم، مُبتدأً من أورشليم. وأنتم شُهود لذلك" (لو24: 44-48).
لقد نقلهم بشرحه المقدس من وضع اليأس الذي عبّروا عنه بهذه الآية: "ونحن كُنا نَرجو أنه هو المُزمِع أن يَفدي إسرائيل" (لو24: 21) إلى وضع الإيمان بلاهوته حيث قيلت الآية: "رَبي وإلهي" (يو20: 28) التي فاه بها توما الرسول القديس.
لقد أدركوا لاهوت المسيح بقيامته، كما قال معمنا بولس الرسول: "وتعيَّن ابن الله بقوة من جهة روح القداسة، بالقيامة من الأموات: يسوع المسيح ربنا" (رو1: 4). ولم يكن من الممكن أن يكون هذا الامر واضحًا قبل القيامة من الأموات.. وهذا هو سر الغموض الذي اكتنف أحاديث وأعمال السيد المسيح في الأسبوع الأخير.
إن البشرية ستعيش في ظلام الجهل وعدم المعرفة طالما حجبت نفسها عن نور مجد المسيح.
عدم الإيمان بلاهوت المسيح وعدم الاعتراف بموته وقيامته سيجعل الناس يعيشون كما عاش رسل المسيح قبل صليبه وقيامته في عدم معرفة.
أما الإيمان فهو سر الفهم كما قيل: "بالإيمان نفهم" (عب11: 3)، وهو سر الاستنارة الذهنية والفكرية.. بل لا أبالغ إذا قلت أن مصدر الحضارة البشرية الحديثة في الغرب وفي كل العالم سببها الاستنارة التي أعطاها الإيمان بالمسيح للناس. فحتى لو بَعُد العالم اليوم عن المسيح لكن لا ننسى أن جذر هذه الحضارة هو جذر مسيحي.
فلنمجد اسم المسيح الذي ينير عقولنا وأذهاننا بمعرفته الإلهية.
له المجد آمين.

الأنبا رافائيل - الأسقف العام لكنائس وسط القاهرة
http://www.youthbishopric.com



Share/Save/Bookmark

No comments:

Post a Comment

Facebook Comments

Twitter

I Read

Word of the Day

Quote of the Day

Article of the Day

This Day in History

Today's Birthday

In the News